في عام 2024، قدم لنا المخرج البلجيكي تيم ميليانتس فيلمه الجديد "أشياء صغيرة مثل هذه"، الذي يدور حول أحداث مؤلمة تتعلق بمعاناة المرأة والفكر الغربي. مستندًا إلى رواية كليمنس كيغن، يسلط الفيلم الضوء على تجربة إنسانية مؤثرة تتحدى قسوة المجتمعات التقليدية، ومخاطر التهليل بالسلطة الدينية. تدور أحداث الفيلم في مدينة ويكسفورد الإيرلندية عام 1985، حيث نلتقي بالبطل ويليام فيرلونج، الذي يلعب دوره ببراعة الممثل الشهير سيليان مورفي. ويليام هو رجل هادئ وبسيط يعمل كتاجر للفحم والوقود، يحاول أن يعتني بأسرة مكونة من خمس بنات. لكن في خضم الصعوبات الحياتية، يجد نفسه شاهدًا على مآسي تعاني منها الفتيات في دار للأيتام تديرها الراهبات، حيث يتم إجبار الفتيات على العودة إلى مكان قد تكون فيه حياتهن مهددة. أثناء توصيله للفحم والخشب إلى الدار، يجابه ويليام جوانب قاسية من الواقع، حيث تصرخ فتاة بائس في وجهه، وهو ما يثير في نفسه ذكريات مؤلمة من طفولته. كان ويليام يعتبر نفسه محظوظًا، فقد نشأ على يد امرأة طيبة بعد أن فقد والديه، ولكن هذه التجربة تعيد إليه ذكريات الألم والخسارة. مشهد الصراخ يتردد في ذهنه، مما يجعله يعيد النظر في قيمه ويقرر مواجهة الظلم. الخيط الرئيسي للقصة هو قرار ويليام بالخروج عن صمته ومواجهة السلطات، والذي يتجلى في لقائه مع الأم الكبيرة للراهبات، تجسيدًا للسلطة الكهنوتية. الأم الكبيرة، التي تجسدها إيملين واتسون، تهدده بعواقب وخيمة إذا أبلغ عن ما شاهده، مما يضع ويليام في موقف صعب للغاية. هل سيتجاهل الألم الذي شهدته؟ أم سيواجه القوى التي تتحكم في مصير الفتيات؟ من خلال فيلم "أشياء صغيرة مثل هذه"، يبتعد ميليانتس عن الصور النمطية التي اعتدنا رؤيتها في الأفلام حول الصراع بين الخير والشر. بدلًا من ذلك، يقدم فيلمًا يتخذ من الإنسانية مركزًا له. ويليام ليس منقذًا خارقًا، بل رجل عادي يحاول أن يقوم بما هو صحيح في عالم مليء بالظلم. يقدم الفيلم نظرة أكثر تعقيدًا للمعاناة، حيث يسعى ويليام إلى تحقيق توازن بين مصلحته الشخصية وإحساسه بالواجب تجاه الآخرين. تتميز الصورة السينمائية للفيلم بجماليات تتناغم مع عواطف الشخصيات، حيث تبدو الألوان باهتة مع بروزة الرمادية، مما يضفي جوًا من الحزن والقلق على الأجواء. كل هذا يؤكد على الرؤية الإنسانية التي يسعى الفيلم لنقلها، وهي رؤية تتجاوز أبعاد القصة الفردية لتصل إلى الأبعاد المجتمعية. تتعلق الأحداث بممارسات السلطة والنفوذ، وكيف يمكن للرجل العادي أن يتحدى تلك السلطة. على الرغم من أن فيلم "أشياء صغيرة مثل هذه" يستمد قوته من تصوره للمعاناة الإنسانية، إلا أنه يواجه بعض الانتقادات. بعض المشاهدين يشيرون إلى أن دخول الرجل كجزء رئيسي من القصة يمكن أن يُعد تهميشًا لتجربة النساء الضحايا الحقيقيات، وقد يشكل إبعاد التركيز عن صرخاتهن ومعاناتهن. وتحذر الأصوات النسائية من أن السينما، بدلاً من إعادة تقديم قصص تمثل تلك الفتيات، يمكن أن تساهم في إعادة طمس تلك المعاناة. مع ذلك، من المهم أن نعتبر الفيلم دعوة للتأمل في كيفية استجابة الأفراد للتحديات الأخلاقية. فكل شخصية في الفيلم تعرض لنا جانبًا من الطبيعة البشرية، وخاصة كيف يمكن للعطاء والتضحية أن يتجلى في مواقف صعبة. يحمل "أشياء صغيرة مثل هذه" رسالة مفادها أن كل عمل صغير، حتى لو بدا تافهًا، يمكن أن يكون له تأثير كبير إذا كان مشبعًا بالنية الطيبة. تميز الأداء الرائع لسيليان مورفي في تجسيد شخصية ويليام، حيث يقدم تجربة إنسانية صادقة تمزج بين الفراغ والحنين، وعالم مليء بالألم. إن اهتمامه بإنسانية الفتاة التي تعاني، وصراعه الداخلي بين الواجب والأمان، يجعله شخصية أكثر قربًا للمشاهد مما يعكس حقيقة أن كل إنسان يمتلك تلك القدرة على التعاطف. 'أشياء صغيرة مثل هذه' لا يحتوي فقط على قصة قوية، بل يحاول أن يطرح تساؤلات عميقة حول الإنسانية والدين والسيطرة. بينما يستمر عرض الفيلم في مهرجانات الأفلام العالمية مثل برلين، نجد أن النقاشات تدور حول ما يعنيه أن نكون بشرًا في ظل الصعوبات. لا شك أن "أشياء صغيرة مثل هذه" يعتبر عملًا سينمائيًا ذو معاني عميقة ويعكس قضايا لازالت تمس المجتمعات. كما أنه يفتح المجال أمام التحديات التي يواجهها الأفراد في مقاومة القوى الظالمة، ويجسد تساؤلات حول الأخلاق والواجبات الإنسانية. في النهاية، يعيدنا الفيلم إلى الأسئلة الأساسية حول العالم الذي نعيش فيه، وكيف يمكن لكل واحد منا أن يتحرك بحذر نحو الفعل الصحيح، مهما كانت الظروف المعقدة التي قد نواجهها. تلك هي الرسالة الأساسية التي يحملها "أشياء صغيرة مثل هذه"، والتي تتيح للمشاهدين أن يتأملوا في أفعالهم وتأثيرها على من حولهم.。
الخطوة التالية