تعتبر العملات المشفرة موضوعًا حديثًا ومثيرًا للجدل في عالم المال والاستثمار، ولكنها في الوقت نفسه تواجه شبهات قوية بشأن تأثيرها على البيئة. في السنوات الأخيرة، أصبحت الشواغل البيئية جزءًا لا يتجزأ من النقاشات الاقتصادية، مع التركيز المتزايد على الاستثمارات التي تتماشى مع مبادئ الحوكمة البيئية والاجتماعية. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يمكن للعملات المشفرة أن تكون صديقة للبيئة؟ عندما نتحدث عن العملات المشفرة، نقصد بشكل أساسي تقنيتي التعدين والتداول. تشتهر بيتكوين، وهي العملة المشفرة الأكثر شهرة، بخوارزمية تعدينها المسماة "إثبات العمل" (Proof of Work) التي تتطلب طاقة هائلة. يتطلب تعدين البيتكوين حل معادلات رياضية معقدة، ما يؤدي إلى استهلاك كميات كبيرة من الكهرباء. حتى أن بعض التقارير تشير إلى أن استهلاك الكهرباء للعملة يعادل استهلاك دول كاملة مثل النرويج والسويد. تُقدر جامعة الأمم المتحدة أن البصمة الكربونية لشبكة البيتكوين تعادل احتراق 38 مليار طن من الفحم، كما أن استهلاك المياه في عمليات التعدين يمكن أن يلبي احتياجات شرب المياه لأكثر من 300 مليون شخص في إفريقيا جنوب الصحراء. هذا الأمر أثار قلق العديد من المنظمات الدولية مثل وكالة الطاقة الدولية والأمم المتحدة، التي دعت إلى اتخاذ إجراءات جادة للنظر في آثار هذه الأنشطة على البيئة. علاوة على ذلك، تفتقر صناعات العملات المشفرة إلى لوائح وقوانين صارمة، مما يجعل من الصعب تحديد إطار عمل يضمن الالتزام بالمبادئ البيئية الاجتماعية. ومع تزايد الاستثمارات في العملات المشفرة، يستمر الجمهور في تحمل المخاطر نتيجة لتقلبات الأسعار ووجود عمليات غسيل الأموال والنصب المالي. ومع ذلك، فقد بدأت بعض التحولات الإيجابية في الصناعة، حيث أدرك العديد من الفاعلين في مجال العملات المشفرة ضرورة التكيف مع القيم البيئية. في عام 2021، وقعت العديد من الشركات العاملة في هذا المجال اتفاقية "ميتاق المناخ للعملات المشفرة" (Crypto Climate Accord)، والتي تهدف إلى تقليل تأثير الصناعة على البيئة. تتضمن الاتفاقية أهدافًا قصيرة المدى تتمثل في تطوير معايير وتقنيات لضمان أن تعمل شبكات البلوكشين بالطاقة المتجددة بنسبة 100٪ بحلول عام 2025، وأن تحقق صافي انبعاثات صفرية من استهلاك الكهرباء بحلول عام 2030. تشير بعض التطورات التكنولوجية الحديثة إلى أن صناعة العملات المشفرة بدأت تتخذ خطوات فعالة نحو ذلك. تتعاون شركات مثل "مارا" و"أركو" على تطوير تقنيات مثل أنظمة التبريد immersion cooling التي تعمل على تقليل استهلاك الطاقة بشكل كبير خلال عمليات التعدين. كما أن هناك جهودًا تهدف إلى إعادة توجيه الحرارة الناتجة عن مراكز البيانات لتلبية احتياجات الطاقة للمجتمعات القريبة. إضافة إلى ذلك، ظهرت عدد من العملات المشفرة التي تُعرف بأنها صديقة للبيئة، مثل "Cardano" و"Powerledger". تعتمد هذه العملات على نماذج تعدين أقل استهلاكًا للطاقة تُسمى "إثبات الحصة" (Proof of Stake)، حيث يتعين على المعدنين وضع حصة من عملاتهم في النظام للتأكد من صحة المعاملات، مما يقلل بشكل كبير من استهلاك الطاقة. على سبيل المثال، في عام 2022، قامت شبكة "إيثريوم" الشهير بالتحول من نظام "إثبات العمل" إلى "إثبات الحصة"، مما قلل من استهلاك الطاقة بنسبة تقارب 100٪. يعكس هذا التحول كيف يمكن للتكنولوجيا أن تساهم في تقديم حلول بيئية مستدامة في عالم العملات المشفرة. تسعى مؤسسات مثل مجلس الاستقرار المالي إلى وضع إطارٍ يسهم في فهم متطلبات الحوكمة البيئية والاجتماعية لمساعدتها على تحقيق أهدافها. يمكن أن تسهم هذه الجهود في فتح الأبواب للمستثمرين الذين يسعون للاستثمار في العملات المشفرة بدون الشعور بالذنب تجاه التأثيرات البيئية المحتملة. لكن الدرب نحو العملات المشفرة الخضراء لا يزال صعبًا، ويعتمد نجاح هذه المبادرات على الالتزام الجماعي من جميع الفاعلين في الصناعة. ستظل الممارسات السيئة مثل الغش والاحتيال والتلاعب في الأسعار عائقا أمام قبول العملات المشفرة كبديل أخضر ومستدام في أسواق الاستثمار. في النهاية، يبقى السؤال: هل يمكنك الوثوق في العملات المشفرة كاستثمار مستدام؟ قد تكون الإجابة محيرة للكثيرين، لكن هناك قناعة متزايدة أن الابتكارات التكنولوجية والالتزامات البيئية يمكن أن تساعد في تحقيق ذلك. بالتأكيد، سيظل الطريق طويلًا، لكن كل خطوة صادقة نحو الاستدامة تُعتبر خطوة في الاتجاه الصحيح. إن التحديات والفرص المقبلة قد تشكل مستقبل العملات المشفرة. قد نرى المزيد من الشركات التي تتبنى معايير الاستدامة وتقنيات التعدين الحديثة، مما يفتح الأبواب لمستقبل تكون فيه العملات المشفرة جزءًا من الحل بدلاً من أن تكون جزءًا من المشكلة. ستبقى أعيننا على هذه الصناعة ونحن نتابع كيف ستتطور الأمور.。
الخطوة التالية