تجذب أسواق العملات المشفرة في الصين أنظار العالم بأسره، حيث تكشف التقارير الأخيرة عن زيادة ملحوظة في تداول العملات الرقمية في السوق السوداء، رغم الحظر الرسمي الذي فرضته الحكومة الصينية. فخلال تسعة أشهر فقط، تراكمت تدفقات تصل إلى 75.4 مليار دولار، مما يعكس تزايد الاهتمام بالاستثمار في العملات الرقمية كبديل للخيارات التقليدية. منذ أن فرضت الصين قيودًا صارمة على تداول العملات المشفرة في عام 2021، اشتهرت البلاد باجراءاتها القاسية تجاه هذه الأصول الرقمية. ومع ذلك، يبدو أن قوانين الحظر لم تؤثر بشكل كبير على استمرارية وأنشطة تجارة العملات المشفرة، بل على العكس، شهدت السوق السوداء انتعاشًا غير مسبوق. وفقًا لدراسة أجرتها شركة "تشيناليسيس"، فقد بلغت تدفقات التداول في السوق السوداء حوالي 20 مليار دولار لكل ربع سنة خلال التسعة أشهر الماضية التي انتهت في يونيو 2024. هذا الارتفاع في النشاط يعد علامة واضحة على أن العديد من المستثمرين الصينيين يبحثون عن فرص استثمار جديدة، خاصة في ظل ضعف الأسواق المالية التقليدية مثل الأسهم والعقارات. تظل خدمات التداول خارج البورصة (OTC) خيارًا مفضلًا للمستثمرين الذين يرغبون في تحويل اليوان إلى عملات رقمية بعيدًا عن الأسواق العامة. يتميز هذا النوع من التداول بالسرية، حيث يتم فيه تبادل الأصول دون الحاجة لتسجيل المعاملات على منصات التداول المعروفة. تشير البيانات إلى أن حوالي 55% من إجمالي قيمة المعاملات تأتي من عمليات تتجاوز مليون دولار، مما يبرز أهمية هذه المعاملات الكبيرة. ورغم أن الدراسة لم تحدد ما إذا كانت هذه التحويلات الكبيرة ناتجة عن أفراد ثراء أو عن شركات تعمل نيابةً عن عملاء أصغر، إلا أن الزيادة في حجم هذه الصفقات تدل على أن السوق السوداء تجذب كلاً من المستثمرين من ذوي الثروات الكبيرة وكذلك الشركات. تعود أسباب هذا الازدهار إلى الظروف الاقتصادية التي تمر بها الصين. فمع تراجع أداء الأسواق التقليدية، يتجه العديد من المستثمرين نحو العملات الرقمية كوسيلة لحماية ثرواتهم وتفادي المخاطر المرتبطة بالاستثمار في أسواق الأسهم أو العقارات المتعثرة. يعكس هذا السلوك التحول الأوسع نحو البحث عن ملاذات آمنة في أوقات الأزمات الاقتصادية، حيث تزداد أهمية الأصول الرقمية كأداة للتحوط من المخاطر الاقتصادية. يعتبر هذا التطور في السوق السوداء بمثابة تحدٍ لمسؤولي الحكومة الصينية، الذين سعوا جاهدين لتطبيق القوانين والأنظمة التي تهدف إلى تنظيم سوق العملات المشفرة. هناك شعور متزايد بأن تنفيذ الحظر قد يكون أقل صرامة مما كان يُعتقد سابقًا، مما يوفر البيئة الملائمة لنمو أسواق العملة الرقمية غير الرسمية. وفي ذات السياق، يبرز دور مدينة هونغ كونغ في هذه المعادلة الاقتصادية. على عكس سياسات البر الرئيسي، قام القائمون على هونغ كونغ بتحتخلق بيئة أكثر انفتاحًا تتعلق بالعملات الرقمية. فقد استهلت المدينة خطوات لجذب استثمارات في القطاع الرقمي، مما خلق تباينًا واضحًا بين النهج الصارم الذي تتبعه الحكومة الصينية وبين استراتيجيات هونغ كونغ الأكثر مرونة. بينما تستمر التوجهات الحالية في تعزيز السوق السوداء للعملات المشفرة، يتوقع العديد من المحللين الاقتصاديين أن يستمر النمو في هذه الأنشطة ما لم تتمكن الحكومة من تغيير موقفها تجاه العملات الرقمية. وأشار إريك جاردين، وهو خبير في جرائم الإنترنت بمؤسسة "تشيناليسيس"، إلى أن التخفيف المحتمل في التطبيق القائم للحظر قد يكون دافعًا إضافيًا وراء هذا النمو غير المسبوق. يرى المستثمرون اليوم في العملات المشفرة كخيار أكثر جاذبية وأمانًا، وهذا يضمن استمرار تدفق السيولة إلى السوق السوداء. بالإضافة إلى ذلك، يشير التقديرات إلى أن الطلب المتزايد على العملات الرقمية في الصين قد يؤدي إلى تحول أكبر في التفكير الاستثماري في عموم البلاد، مما يجعله واحدًا من أكبر أسواق العملات المشفرة غير الرسمية في العالم. وفي الختام، يكشف النمو السريع للسوق السوداء للعملات المشفرة في الصين عن تحول جذري في سلوك المستثمرين في مواجهة القيود الحكومية. فبينما تحاول الحكومة السيطرة على الأمور، يبدو أن المستثمرين العاديين والشركات الكبرى يواصلون البحث عن طرق بديلة للاستثمار والربح. تتعاظم أهمية هذه الأسواق غير الرسمية مع تزايد القلق الاقتصادي، مما يعبّر عن رابط عميق بين الاستجابة الاقتصادية والسياسات التنظيمية. مع استمرار الوضع الحالي، يتساءل الكثيرون عما إذا كانت الصين ستتبع خطى هونغ كونغ وتخفف من قيودها على العملات المشفرة، أو إذا كانت ستستمر في محاولة قمع هذا النمو المتسارع. في أي حال، يبدو أن سوق العملات المشفرة في الصين يمر بمرحلة تحول مثيرة ستؤثر على المشهد المالي العالمي لسنوات قادمة.。
الخطوة التالية