تعتبر المدن الحيوية مركز استقطاب للسكان والاقتصادات، حيث تقدم فرصًا لا حصر لها للتنمية والابتكار. ومع تزايد التحديات التي تواجه المدن، من تغير المناخ إلى زيادة الكثافة السكانية، يعيد الخبراء التفكير في كيفية تصميم هذه الأماكن الحضرية لتحقيق غايات مستدامة. ويعتبر تقرير "المستقبل الحضري بهدف" الصادر عن شركة ديلويت مثالاً على تلك الجهود لفهم وتحليل كيفية بناء مدن تعزز من جودة حياة سكانها وتساهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة. تأتي أهمية هذه الرؤية المستقبلية في وقت حرج، حيث تشير التقديرات إلى أن حوالي 68% من سكان العالم سيعيشون في المناطق الحضرية بحلول عام 2050. من هنا، تبرز الحاجة إلى تخطيط حضري يتماشى مع التطورات التكنولوجية والاجتماعية، ويخدم مصالح جميع الأطراف المعنية، من المواطنين إلى الحكومات والشركات. ويشدد التقرير على أهمية إدماج السكان في عملية التخطيط، وهو ما يعزز من حس الانتماء ويساهم في تحقيق النتائج الإيجابية. يتناول التقرير ثلاثة محاور رئيسية: الاستدامة، والابتكار، والعدالة الاجتماعية. فمن ناحية الاستدامة، يواجه العالم تحديات كبيرة تتعلق بتغير المناخ والموارد الطبيعية. وفي هذا السياق، يدعو التقرير إلى تبني مبادئ الاقتصاد الدائري، حيث يتم استخدام الموارد بشكل أكثر كفاءة وتقليل النفايات. وتعتبر المدن الذكية مثالًا على كيفية استخدام التكنولوجيا لتعزيز الاستدامة. من خلال تحسين إدارة الموارد مثل المياه والطاقة، يمكن للمدن أن تكون أكثر استدامة وأقل تلوثًا. أما الابتكار، فيعتبر المحور الثاني في التقرير، حيث تتجه العديد من المدن إلى استخدام التكنولوجيا لتعزيز البنية التحتية والخدمات. فالتنقل الذكي، على سبيل المثال، قد يحل العديد من مشاكل الازدحام المروري من خلال توفير وسائل النقل العامة الذكية والمشتركة. تحتاج الحكومات إلى الاستثمار في البحث والتطوير، وتعزيز شراكات مع القطاع الخاص لتحفيز الابتكار. وهذا يعدد من فرص نمو الشركات الناشئة التي تركز على الحلول المستدامة. وعلاوة على ذلك، يشير التقرير إلى أهمية تحقيق العدالة الاجتماعية في المدن. يعاني العديد من السكان من عدم المساواة، حيث حرمان فئات كبيرة من الوصول إلى الخدمات الأساسية مثل التعليم والرعاية الصحية. لذا يوصي التقرير بتعزيز السياسات التي تضمن توزيع عادل للموارد، وتحقيق تكافؤ الفرص لجميع السكان. يمكن للمدن أن تلعب دورًا بارزًا في هذا السياق من خلال خلق بيئات شاملة تُعزز من التفاعل الاجتماعي بين مختلف الفئات. واحدة من المبادرات الملهمة التي تضمنها التقرير هي تجربة مدينة "أبردين" في اسكتلندا، حيث تم تطبيق نموذج المدينة الذكية بشكل فعّال من خلال تطوير أنظمة النقل الذكية للتقليل من وقت الانتظار، وتحسين الوصول إلى الخدمات العامة. إذ تم تسخير البيانات والتكنولوجيا لتعزيز مرونة المدينة وقدرتها على التكيف مع التحديات المستقبلية. كما أوضحت تجربة "أبردين" كيفية استخدام المدينة الذكية لخلق تجارب متميزة للمواطنين في مجال التنقل والإستدامة. ومن الجدير بالذكر أن مفهوم "المستقبل الحضري بهدف" لا يقتصر فقط على المدن ذات الموارد الكبيرة بالمكانة الجغرافية الجيدة، بل ينطبق أيضًا على المدن الصغيرة والنامية. فمثلاً، يمكن للمدن النامية استخدام الابتكارات التكنولوجية المحلية للتغلب على العقبات اليومية، مثل تحسين أنظمة الصرف الصحي أو توفير حلول للطاقة المتجددة. وعلاوة على ذلك، يتناول التقرير دور الشركات في هذه التحولات الحضرية. حيث يمكن أن تكون الشركات المحرك الرئيسي للتغيير من خلال تبني ممارسات أكثر استدامة وتعزيز الابتكارات في مجالاتهم. يسهم دعم الشركات للحلول المستدامة في خلق فرص عمل جديدة وتعزيز النمو الاقتصادي داخل المجتمعات المحلية. إذ تُعتبر الشراكات بين الحكومات والشركات والمجتمع المدني خطوة أساسية نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة. لكن التحديات تبقى قائمة، فلابد من تركيز الجهود على خلق الوعي بأهمية الابتكار المستدام بين أفراد المجتمع. يتطلب الأمر أيضًا التصدي للمعوقات الثقافية والاجتماعية التي قد تعيق تنفيذ الحلول المقترحة. لذلك، ينصح التقرير بمشاركة المواطنين في عملية صنع القرار والعمل على بناء الثقة بين كافة الأطراف المعنية. في الختام، تعكس رؤية "المستقبل الحضري بهدف" التحديات والفرص التي تواجه الحضر اليوم. ومع تزايد عدد سكان المدن والحاجة الملحة لتعزيز الاستدامة، يجب أن تكون الرؤية واضحة، وتحركات الحكومات والأفراد متزامنة لتحقيق الأهداف المرجوة. إن تغيير علميات التخطيط الحضري في العالم يتطلب التعاون المستدام بين جميع المشاركين، مما يشير إلى مستقبل حضري مزدهر وأكثر شمولية لجميع الأفراد. يجب على الحكومات والشركات والمجتمعات المدنية أن تتضافر جهودها نحو بناء مدن تستوعب جميع الفئات وتلبي احتياجات المستقبل. فالاستقرار الحضري ليس مجرد فكرة، بل يجب أن يكون هدفًا مشتركًا يسعى المجتمع لتحقيقه بوعي ورؤية واضحة.。
الخطوة التالية