تتجه الأنظار في الفترة الأخيرة نحو السياسات الاقتصادية التي تنتهجها الصين، وخاصة بعد فرض الحكومة الصينية حظراً شاملاً على العملات الرقمية. يأتي هذا الحظر في وقت تتسارع فيه العديد من الدول للتوجه نحو إقرار العملات الرقمية التي تديرها البنوك المركزية. وفي خضم هذه الديناميات، تُدلل الأفعال الصينية على رؤية استراتيجية تفصيلية قد تمهد الطريق لإطلاق اليوان الرقمي، وهو العملة الرقمية الوطنية التي تعمل الحكومة الصينية على تطويرها. في سبتمبر 2021، أعلنت السلطات الصينية عن وضع حد نهائي للتداول في العملات الرقمية، ووصفت هذه الأنشطة بأنها تهدد الاستقرار المالي. الشرح وراء هذا الحظر يكشف الكثير عن الأهداف الاقتصادية والسياسية للصين، بالإضافة إلى رغبتها القوية في السيطرة على القطاع المالي والنقدي لعالمها الرقمي. ترى الحكومة الصينية أن العملات الرقمية، مثل البيتكوين والإيثيريوم وغيرها، تمثل تحدياً كبيراً للسيطرة النقدية. فهذه العملات تعمل خارج نطاق الأنظمة التقليدية، مما يجعل الحكومة عاجزة عن تتبع المعاملات المالية ومنع الاستخدامات غير المشروعة. لذلك، يستهدف الحظر تقليص تأثير العملات الرقمية، في الوقت الذي تدفع فيه الصين نحو تعزيز اليوان الرقمي. استراتيجياً، هذا التحول يتماشى مع رؤية الحكومة لتعزيز التكنولوجيا المالية وتبني الابتكارات التي تعكس القوة الاقتصادية للبلاد. إن تطوير اليوان الرقمي يشير إلى نية الصين في أن تكون رائدة في مجال العملات الرقمية، والتأكيد على أن العملة الوطنية هي الأكثر أماناً وثقة والمنظمة من قبل الجهات الحكومية. يسمح إدخال اليوان الرقمي بتطبيق تقنيات جديدة مثل تتبع المعاملات بشكل أكثر فعالية. فبفضل هذه التكنولوجيا، يمكن للحكومة الصينية رصد الأنشطة الاقتصادية بشكل أكثر دقة، وتحقيق التحكم الكامل في السيولة النقدية. وهذا في حد ذاته هدف استراتيجي لمنع أية تقلبات أو ممارسات غير مشروعة قد تؤثر على استقرار الاقتصاد الصيني. إضافة إلى ذلك، فإن الصين تدرك أن تقديم عملتها الرقمية في السياق الدولي يمكن أن يمنحها نفوذاً أكبر في النظام المالي العالمي. يتحدث الكثير من الخبراء عن إمكانية استخدام اليوان الرقمي في التجارة الدولية، مما يمكن أن يتحدى هيمنة الدولار الأمريكي كمصدر رئيسي للتداول. إذا نجحت الصين في جعل اليوان الرقمي خياراً جذاباً للمستخدمين الدوليين، فإن ذلك من شأنه أن يعزز موقف البلاد كقوة اقتصادية ونقدية عالمية. تسعى الصين أيضاً إلى تعزيز استخدام اليوان الرقمي في ظل حالة عدم الاستقرار التي شهدتها الأسواق المالية العالمية مؤخراً. فمع تزايد الضغوط الاقتصادية بسبب جائحة كورونا، استطاعت الصين أن تسجل نمواً اقتصادياً جيداً مقارنة بمناطق أخرى من العالم. ومن خلال إدخال العملة الرقمية، تحاول الحكومة الصينية الاستفادة من هذا الزخم ودفع الاقتصاد الرقمي قدماً. تجدر الإشارة إلى أنه بينما تسهم هذه الاستراتيجيات في تعزيز الاستقرار المالي، فإنها تثير قلق العديد من الاقتصادات الأخرى، وخاصة أنظمة الدفع التقليدية. فقبل تصريح الحكومة الصينية بتقديم اليوان الرقمي، تمايل النظام المالي العالمي في اتجاه العملات الرقمية، وكان هناك اهتمام متزايد بإيجاد حلول تتيح تسريع عملية الدفع عبر الحدود. تتنافس العديد من الدول حالياً على إدخال عملاتها الرقمية في السوق، والسعي للحصول على التكنولوجيا اللازمة لهذا الهدف. ومع الحظر الذي فرضته الصين على العملات الرقمية، فإنها تركز على تطوير عملتها الرقمية الوطنية بدلاً من السماح بتقنيات خارجية قد تؤثر على سيطرتها النقدية. في ختام الأمر، يُظهر حظر الصين على العملات الرقمية تحولاً كبيراً في الرؤية الاقتصادية على الصعيدين الداخلي والدولي. فدور اليوان الرقمي يظهر أكثر وضوحاً في السياق العام للسياسات النقدية، ويعطي مؤشراً على توجه العالم نحو الاعتماد على العملات الرقمية المدعومة من الحكومات، وتأكيد على التحكم الفعلي للسلطات في النظام المالي. تصور الصين مستقبلها كقوة اقتصادية بقيادة التكنولوجيا، حيث تعمل بجد على تهيئة الظروف الملائمة لضمان استخدام اليوان الرقمي. وبما أن الأحداث تتطور بسرعة، فإن التحركات الاستراتيجية التي تتخذها الصين في هذا الاتجاه قد تعيد تشكيل المشهد المالي العالمي وتفتح آفاق جديدة للتوجهات التقنية والنقدية.。
الخطوة التالية