في عصرنا الحديث، يتجلى الإلهام بأشكاله المتنوعة، حيث أصبح من الضروري أن يسعى الأفراد والمجتمعات للبحث عن مصادر جديدة للإلهام تجدد حياتهم، وتعزز من تجاربهم اليومية. تعتبر المدن وخصوصًا تلك التي تتميز بثقافتها الغنية، منبعًا خصبًا للإلهام. ومن بين هذه المدن، تبرز مدينة غيسن في ولاية هسن بألمانيا كوجهة تجمع بين التاريخ، الثقافة، والفنون، مما يجعلها مكانًا مثاليًا لاكتشاف الإلهام الحقيقي. غيسن، التي تقع في قلب ألمانيا، تحمل في طياتها تاريخًا عريقًا يمتد لقرون، حيث تأسست في العصور الوسطى. المدينة مشهورة بجامعتها التي تعد واحدة من أقدم الجامعات في البلاد، والتي ساهمت في تطوير العديد من المفكرين والعلماء على مر السنين. هذه الأجواء التاريخية والثقافية تجعل من غيسن بيئة مثالية للشغف بالإبداع والفن. أسهمت الأحداث الثقافية التي تُعقد في المدينة في تعزيز الوعي الثقافي والإلهام الفني. أحد هذه الأحداث كان عرضًا موسيقيًا قدمه أوركسترا الماندولين من ترايس وويتلار-ناوبورن، والذي أُقيم في كنيسة سانت توماس موروس. تعد آلات الماندولين من الآلات النادرة هذه الأيام، بينما كانت تُستخدم بكثرة قبل مئة عام. وهذا يعكس كيف يمكن للفنون الكلاسيكية أن تتجدد وتعيد إحياء نفسها من خلال العروض المعاصرة. بدأت الأمسية مع تقديم أوبرتو في لا منفردة، حيث أظهر الموسيقيون براعتهم في الأداء وفي التفاعل مع الجمهور. تحدث المنظم يعقوب هاندراك عن دور الماندولين في بناء جسور الإلهام بين الثقافات المختلفة، وكيف أن هذا النوع من الموسيقى يمكن أن يربط بين الماضي والحاضر. الاهتمام بهذه الآلة لم يقتصر على كونها مجرد عنصر موسيقي، بل امتد إلى كونها رمزًا للتحولات الثقافية والاجتماعية. في العشرينات من القرن الماضي، شهدت الآلات الوترية، وخاصة الماندولين، فترة ازدهار مرتبط بحركة "واندرير"، حيث كانت تُستخدم للتعبير عن الشعور بالحرية والبحث عن الهوية. خلال الحفل، تطرب الأذان بألحان مدهشة تعكس تنوع الفنون وتأثيرها على الروح البشرية. فقد قُدم عرض موسيقي متكامل يستعرض مزجًا بين الأنماط الموسيقية التقليدية والعصرية، حيث غنت الجوقة أولاً مقطوعة "Mandolin in my heart" للملحن الياباني غوشي يوشيدا، التي أضفت جوًا من الرومانسية الحالمة، بينما تلاها أداء آسر لموسوعة موسيقية تُظهر قدرة الأوركسترا على التأقلم مع الظروف المحيطة. تتابع الأعمال الموسيقية، لتشمل تنويعات مختلفة ومبتكرة، من بينها تحفة Händel "Zadok the Priest"، التي تم إعادة ترتيبها بأسلوب حديث، حيث شعر الجمهور بمشاعر متناقضة من البهجة والحماس. إنه لأمر رائع كيف يمكن للموسيقى أن تعبر عن مجموعة متنوعة من المشاعر الإنسانية، وأن تنقل الأفراد إلى عوالم مختلفة. تتوالى الابتكارات الموسيقية، فبينما يؤدي الأوركسترا "Valse Triste" لجيان سيبيليوس، تنطلق الموسيقى في رحلة مشاعر تحمل تأملًا في الوجود. وبعدها يأتي دور المقطوعتين "Fusion Em" لدانييل دي روفر و"Skabbalabaster" لكريستوفر جرافشميت، واللتين قدمتا تجربة سمعية فريدة. فالأولى تمزج بين عناصر الجاز، بينما الثانية تضفي جواً من الفرح والحيوية بفضل التأثيرات الثقافية المتنوعة. وبينما يتفاعل الحضور مع الألحان، يستعيد الأوركسترا الأنفاس ويستعد لتقديم مجموعة من الألحان الشعبية، حيث قدموا ميدلي شاملًا من أغاني آبا الشهيرة، مما جعل الجميع يشارك بالتصفيق والغناء. هذه اللحظات تُظهر كيف يمكن للموسيقى أن تجمع بين الأجيال، وتفتح أبواب الإلهام أمام الجميع. وفي ختام الحفل، لم يكن التصفيق الحار بمثابة تشجيع فحسب، بل كان تعبيرًا عن الامتنان، لذلك السحر الذي أُتيح لهم عيشه. كهدية أخيرة، قدّم الأوركسترا قطعة "Whisky in the Jar" وهي لحن شعبي أيرلندي تقليدي، مما جعل الجمهور يشعر بالحنين ويعبر عن حبهم للموسيقى بطريقة عفوية. الإلهام في مدينة غيسن لا يتوقف عند حدود الموسيقى فقط، بل يتنقل عبر الفنون المختلفة كالكتابة، الرسم والرقص. كما أن الأماكن الثقافية والفنية المتنوعة توفر للزوار فرصًا غنية لاستكشاف الإبداع. من الغاليريات الفنية إلى المسارح، تضم المدينة فعاليات دورية تجذب الفنانين والمبدعين من مختلف المجالات. ولقد أظهر العرض الموسيقي الأخير كيف يمكن للشغف بالفن أن يخلق روابط قوية بين الأفراد والمجتمعات. وبمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس جمعية الماندولين في ناوبورن، تستمر الفعاليات الثقافية مما يجعل غيسن نقطة التقاء وحوار دائم حول الإبداع والإلهام. في النهاية، تبقى غيسن مثالاً حيا على كيفية احتضان الفنون والإبداع، وتقديم منصة تعزز من شئون الحياة الثقافية والفنية. إن رحلة البحث عن الإلهام تستمر، مما يجعل كل زاوية في هذه المدينة تتمتع بحكايات متعددة وألوان مختلفة من الإبداع، وتتحدى الجميع للبحث عن ما يلهمهم ويوقظ شغفهم في عالم تتجدد فيه الأفكار وتتلاقى فيه الثقافات.。
الخطوة التالية